• الساعة الآن 06:07 PM
  • 27℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

السودان.. هل من فرص لاستعادة وحدة البلاد حرباً أو سلماً؟

news-details

كلما اعتقدنا أن الحرب في السودان اقتربت من نهايتها حتى تعود إلى مربعها الأول، وتتغير قواعد الاشتباك من جديد، لدرجة أننا صرنا اليوم نكاد لا نعرف السودان كما كنا نعرفه بالأمس القريب، فالانقسام السياسي والتناحر العسكري اللذان ينهشا لحمه وينخران نخاع عظمه يجعلانا كل يومٍ أمام مشهد جديد لمأساة هذا البلد الكبير، المترامي مساحةً، والمعقد تكويناً عرقياً وثقافياً إلى حدٍ يصعب معه القول بهويةٍ واحدةٍ للسودان إن كان عربياً خالصاً أو إفريقياً تماماً، أو مزيجاً متجانساً من هذا وذاك.

خلال العقود الأربعة الماضية، كدت أعرف السودان جيداً، سواء من خلال عملي كمراسلٍ حربيٍ ميداني في القرن الأفريقي، وصحفي متجولِ لدى قناة (العربية) السعودية أو وكالة (رويترز) الدولية، وذلك أثناء أخطر أزمتين اندلعتا في تاريخه الحديث في نهاية حرب الشمال مع الجنوب التي انتهت بمفاوضاتٍ شاقةٍ أفضت إلى انفصالهما، أو عند اشتعال أزمة إقليم (دارفور) وغير ذلك من القضايا التي تمخضت على خلفيتهما في الوسط والشمال الشرقي للسودان.

قبل هذا، تصورتُ أنني، كعربيٍ من بلدٍ جار، فهمت السودان من خلال قراءتي الحرة أو دراساتي المنهجية أو علاقاتي ونقاشاتي مع مختلف النخب السياسية فيه، لكن معرفتي لهذا البلد تخذلني اليوم في فهم ما يحدث في السودان الآن، ولا تصور ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في هذا البلد الإفريقي العملاق.

 لزمنٍ غير قصير، حيَّرني السودان، وشغلني بأسئلةٍ لا تجاب، فكيف بحاله اليوم بعد أن تغيَّر وتبدَّل واختلف، دولةً ومجتمعاً وسياسة، فإلى أين يسير السودان يا ترى؟

توقيت اندلاع أزمة دارفور لم يكن عفوياً، فقد تزامن مع وصول محادثات السلام بين الحكومة السودانية بقيادة الرئيس المعزول، عمر البشير، والحركة الشعبية لتحرير السودان، بزعامة أمينها العام، جون قرنق ، إلى ذروتها، حيث حضر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، طوني بلير ، ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق، كولن باول، ومسؤولون غربيون آخرون كبار لمساومة الخرطوم بين القبول بتوقيعها على معاهدة سلام مشروطة باتفاق على استفتاء بعد خمس سنوات حول ما إذا كانت الوحدة مع الجنوب جاذبةً وقابلةً للاستمرار أو الاستفتاء على انفصاله، أو انفصاله مع دارفور أيضاً. 

حينها قرر البشير القبول المجازفة بتحفظٍ بقبول الخيار الأول تجنباً للخيار الأسوأ، وهو انفصال دارفور وجنوب السودان معاً، إذ كانت الفصائل الانفصالية المسلحة في إقليم دارفور تتغذى عسكرياً وسياسياً من الصراع بين الخرطوم وجوبا، غير أن حكومةٍ البشير فشلت في إدارة الأزمة في دارفور عندما قررت تحويل "ميليشيات الجنجويد" القبلية التي دعمتها إلى أداةٍ لقمع التمرد في دارفور ، ثم تحويلها بعد ذلك إلى ما بات يُعرف بـ "قوات الدعم السريع" التي تنامت لاحقاً عدة وعتاداً، وأصبحت جيشاً موازياً للقوات المسلحة الحكومية، منافساً لها في الحكم والثروة على النحو الذي أدى إلى انفجار الوضع في عموم السودان، خصوصاً بعد انهيار نظام البشير وعزله ووضعه خلف القضبان بعد احتجاجات شعبية عارمة أخرجت حكم البلاد عن السيطرة.

دار فور التي رأيت

خلال رحلتي بالطائرة مع البشير إلى (الفاشر) ثم (نيالا) جنوباً و(الجنينة) غرباً على الحدود مع تشاد، رافقت المبعوث الأممي إلى السودان، الهولندي ، إيأنّ بروك، إلى أحد مخيمات اللاجئين، ورأيت بأم عيني قرى محروقةً عن آخرها، وسمعت إفاداتٍ صادمةً لسكانها، لكن الصادم أكثر كانت إجابات البشير على أسئلتي، وحيرة وزير خارجيته، مصطفى عثمان إسماعيل، في كيفية التعامل مع وضعٍ كهذا.

البعض يبدو اليوم مرتاحاً لاستعادة الجيش السوداني للعاصمة الخرطوم، ودحر قوات الدعم السريع بعيداً، لكن هذا لا يعني أن السودان بخير وقاب قوسين أو أدنى من نهاية الحرب، فأجزاء واسعة من المدينة أصبحت أثراً بعد عين، والعائدون إليها يتحدثون عن فظائع ارتكبتها قوات الدعم السريع من حالات اغتصابٍ مروعةٍ ستترك أثرها طوال ما بقي في عمر ضحاياها، والكثير منهن في سنوات الطفولة والصبا، وعن أعمال سلبٍ ونهبٍ طالت الممتلكات العامة والخاصة، وعن تدمير واسع للبيوت كما للمباني العامة، وغير ذلك من مشاهد يستحيل أن تمحى من ذاكرة السودانيين لعقودٍ طويلة قادمة.

إن تعافي السودان من آثار الحرب غير وارد الآن فالحرب لم تنته بعد، وآثارها لن تقتصر على السودان وحده، بل تمتد إلى دول الجوار العربي كاليمن والسعودية ومصر، حيث استقبلت الأخيرة ملايين أخرى من النازحين، غير الشرعيون منهم أكثر من المسجلين رسمياً لدى السلطات المعنية، ما يشكل هاجساً أمنياً وعبئاً اقتصادياً وضغطاً كبيراً على الخدمات في بلدٍ لا ينقصه الكثير من التحديات والمصاعب.

شارك المقال: