• الساعة الآن 02:04 AM
  • 19℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

‏اليمن بين إرث الصراع التاريخي وممكنات المستقبل

news-details

 


آزال الجاوي

عند قراءة تاريخ الشمال والجنوب خلال القرون الثلاثة الماضية، يتبيّن أن الشمال كان يعيش في حالة حروب دائمة ومستمرة، ضمن واقع اجتماعي وثقافي واقتصادي معقّد. كما أن فكرة الحكم ذاتها في الشمال، ممثلة بنظام الإمامة، لم تكن مستقرة حتى داخل أوساط أتباع المذهب الزيدي في شمال الشمال. ورغم كثافة الصراعات، ظلت وحدة الجغرافيا السياسية في الشمال قائمة في معظم الفترات، ضمن حدودها المعروفة اليوم، باستثناء بعض مناطق تهامة التي شكّلت استثناءً محدودًا في فترات قصيرة ومتقطعة.

في المقابل، كان الجنوب مقسّمًا إلى سلطنات ومشيخات متعددة، ولم يشهد محاولات جدية نحو التوحيد. وكانت معظم الصراعات في الجنوب ذات طابع قبلي، تدور حول الحدود بين الكيانات الصغيرة أو الثارات وما إليها من قضايا محلية، في ظل استقرار نسبي لأنظمة الحكم القبلية البسيطة في كل إقطاعية على حدة، إذ كانت أقرب إلى مشيخات تحكم مناطقها المحدودة (مضارب القبيلة أو مجموعة قُبَل منسجمة ومتناغمة). وقد أدى هذا الانقسام إلى نوع من الاستقرار الداخلي في كل كيان، رغم ما سبّبه من ضعف عام وشلل في بناء مشروع دولة موحدة حقيقية في الجنوب.

بعد ثورتي سبتمبر في الشمال وأكتوبر في الجنوب، لم تتم معالجة الجذور الحقيقية للصراع في الشمال، ولا لجذور الانقسام في الجنوب. فاستمرت الصراعات، وإن تغيّرت عناوينها وأُعطيت طابعًا سياسيًا، إلا أنها ظلت تستبطن أبعادًا تاريخية واجتماعية عميقة، تستدعي إشكالات الماضي التي فشلت الثورة في معالجتها، ناهيك عن اجتثاثها كما كان يُروّج في الخطاب الثوري حينها.

ثم جاءت حرب 2015 لتعيد إنتاج الصراعات نفسها، بصبغتها التاريخية ذاتها، في الشمال والجنوب على حد سواء. فعاد الشمال إلى مربع الانقسام الاجتماعي وجدلية الحكم، بينما عادت الشروخ في الجنوب لترسم ملامح خريطة التفكك التي كانت قائمة قبل توحيد الجنوب في ستينيات القرن الماضي.

اليوم، يقفز البعض فوق هذه الوقائع المتجذّرة في الوعي الجمعي اليمني، ليصوّر أن المشكلة – وبالتالي الحل – تكمن فقط في موضوع الشكل الإداري (كالأقاليم) أو في اقتسام مناصب السلطة. وهذا تبسيط مخل وتسطيح خطير للمشكلة اليمنية، لأنه يتجاهل أبعادها التاريخية والاجتماعية العميقة.

ورغم التسليم بأن اقتسام السلطة قد يشكّل مدخلًا أوليًا نحو المعالجة، إلا أنه قد يكون أيضًا بوابة لأزمات جديدة، إذا لم يكن هذا الاقتسام مؤقتًا ومدخلًا لمشروع مصحوب برؤية شاملة لمعالجة الموروث التاريخي للصراع والانقسام.

السؤال الملح اليوم:

هل يمكن لليمنيين، بمختلف مشاربهم، أن يتوافقوا على مشروع وطني جامع يعالج جذور الماضي ويؤسس لمستقبل مختلف؟ أم أننا سنظل نراوح مكاننا، نعيد إنتاج الانقسام، ونتعثر بأشباح التاريخ في كل منعطف؟

ما ملامح هذا المشروع؟

ليس المطلوب اليوم مقترحات جاهزة أو وصفات سريعة، بقدر ما نحتاج إلى العودة إلى طاولة التأمل والبحث والحوار الجماعي حول مصير هذا الوطن، على قاعدة فهم واقعي للتاريخ لا إنكاره، وعلى أساس وطني جامع لا يقوم على الغلبة أو التهميش أو استدعاء الهويات الصغرى، ولا على القفز فوقها أيضًا.

ومع ذلك، يمكن الجزم أن أي مشروع للخلاص لا بد أن ينبني أولًا على الثوابت الوطنية الكبرى، التي لا يمكن بناء دولة – أو حتى دول مستقرة – دون التوافق حولها. هذه الثوابت، التي شكّلت الأساس لأي فكرة سياسية في اليمن الحديث، تتمثل في:
- الاستقلال من الهيمنة والوصاية الخارجية، ولو بنسبة معقولة تضمن القدرة على اتخاذ القرار الوطني المستقل.
-الجمهورية كنظام سياسي يُبقي على مبدأ التداول والتشارك في السلطة.
- الوحدة بمعناها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي أو التكاملي، قبل السياسي، كقيمة وطنية ثابتة، مع مرونة في إعادة النظر في شكلها السياسي وليس في جوهرها. فواحدية الشعب مسلّمة، والنقاش يجب أن يكون حول الواقع السياسي المتغيّر، لا حول أصل التكوين الوطني.
- الديمقراطية كأساس للشرعية، وضمان لحقوق الأفراد والمكونات، وكضمانة للتداول السلمي للسلطة، وإلغاء منطق الاستحواذ أو إقصاء المهزوم من قبل المنتصر.

أي مشروع يتجاهل هذه الثوابت، أو يحاول القفز على منهجيتها، لن يكون سوى محاولة لإعادة إنتاج الأزمات التاريخية بثوب جديد، بل وربما إضافة أزمات جديدة فوقها.

لقد آن الأوان لأن نتعامل مع التاريخ كخزان للعِبَر، لا كقيد على الحاضر، وأن ندرك أن الخروج من المأزق اليمني لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى شجاعة في الطرح، وصدق في النية، وحرية في الحوار، ومشاركة صادقة من الجميع.

شارك المقال: