• الساعة الآن 05:53 AM
  • 20℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

‏الجوع والكنوز وأشياء أخرى: حين يصبح الجنّ أهون من الواقع

news-details

 

عبدالوهاب قطران

صحوت على خبر مفجع من قريتي، مفاده أن صديقًا عزيزًا، رجلًا شهما طيب القلب، كريم النفس، قد أُصيب بجلطة قلبية نُقل على إثرها إلى العناية المركزة بمستشفى الشرطة. 
لم يكن الرجل سياسيًا ولا محاربًا، بل تاجرًا بسيطًا يملك دكانًا صغيرًا وسط القرية، اعتاد أن يبيع الملابس، ويقرض ثمنها  المغتربين  بالسعودية من أبناء قريتنا إلى أن يعودوا في موسم العيد، فيسددوا ديونهم كما جرت العادة.
لكن هذا العام لم يعد أحد.
حتى مغتربو السعودية، الذين كانوا في نظرنا "صمّام أمان" لأهالي القرى، عادوا يشكون الكساد والبورة من خلف الحدود؛ كساد في الأسواق، بوار في الزراعة، وخسائر لا تسد رمقًا. فلم يسددوه.
فانهار الرجل، ليس أمام رصاصة ولا قذيفة، بل أمام موسم خائن، ودين ثقيل، وقلب لم يتحمّل القسوة.
وفي ذات اليوم، وصلتني قصة أغرب من الخيال: أربعة شباب، اثنان من قريتنا واثنان من قبيلة حاشد، أغواهم الفقر والجوع فذهبوا يبحثون عن الكنوز في جبال حجة.
كانوا يحفرون تحت جنح الظلام، يطاردون سراب الذهب المدفون في الأساطير.
وفي إحدى الحفر، ظهرت لهم "عقربة ضخمة" كانت تحرس الكنز، كما يزعم الرواة.
أحدهم قتلها، ويقال إنها كانت من "الجنّ الحرّاس"، فانتقمت منه، فقتلته وقتلت زميله، أما الاثنان الباقيان فهما يرقدان الآن في المستشفى، يصارعان الموت، في ظل عجز ذويهم عن دفع تكاليف العلاج. يعرضون أرضهم للبيع لسداد فواتير المستشفى.

وقصة ثالثة لشابين آخرين قررا أن يحفرا ليلا بالقرية جوار جامع بحثا عن كنز، فطلع لهم الجن الحارس لاحقهم وفروا من هول ما رأوا، عراطيط كما خلقهم الله والآن شبه مجانين!

دخل علي لاحقًا ثلاثة فلاحين غلابى من البلاد يشكون ظلم قاضٍ في محكمة همدان. أوراقهم تنضح بالمظلومية، طالبين تدخلي معهم لانصافهم ورفع الظلم عنهم.
لكني قلتها بمرارة من جرّب وعرف:
تدخّلي قد يضركم أكثر مما ينفعكم، فالعدالة صارت ترفًا نادرًا.
أنصحكم بمحامٍ وشكوى ولكن لا تنتظروا عدلًا في زمن ميت.
ثم سألتهم عن قصة العقربة والكنز، فهزّوا رؤوسهم مؤكدين صدقها، بل مقتنعين أن الجن هم من قتلوا الشباب، وخنقوا الباقين.
حينها جلست مشدوها، أتساءل بيني وبين نفسي: هل أُكذّب قصة الجن والذهب؟ أم أُكذّب هذا الواقع الذي صار أكثر رعبًا من الخيال؟
في بلد تتسلع فيه الحياة، وتُخصخص فيه الأحلام، لم يعد أمام الفقراء إلا القصص الغيبية كمسكّنات روحية، وهروب داخلي من واقع لا يطاق.
فالناس هنا لا يبحثون عن كنوز الذهب فقط، بل عن كنوز العدل، والأمان، والرحمة، والكرامة...
لكن كل الكنوز مدفونة، محروسة، محرّمة، سواء بسحر الجن أو بفساد الإنسان.
إننا لا نعيش فقرًا اقتصاديًا فحسب، بل فقرًا في الأمل، في المعنى، في العدالة، في الدولة.
والمأساة الأعظم أن الناس حين تعجز عن مواجهة واقعها، تبدأ في تصديقه على هيئة خرافة، وتؤمن به كقَدَر، وتسلّم نفسها له كضحية.
ولذا  لم أعد أعجب من من يؤمن بأن عقربة قتلت رجلين، بقدر ما أعجب ممن لا يرى أن الجوع والفساد والعجز والظلم كلها عقارب أشد فتكًا.

شارك المقال: