في ظل واقع إنساني مرير ومعقد وحركة نزوح يومية تحفها الأخطار شهدت مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور اشتباكات عنيفة بين الجيش وحلفائه من الحركات المسلحة والمستنفرين من جهة، وقوات "الدعم السريع" من جهة أخرى تركزت في المحورين الشمالي والجنوبي، مما أحدث انفجارات قوية في محيط الفرقة السادسة - مشاة ومطار المدينة.
وبحسب مصادر عسكرية فإن الجيش والقوات المساندة له شنوا قصفاً مدفعياً صوب مواقع وارتكازات "الدعم السريع" في الجهة الشمالية الشرقية للفاشر وجنوبها، بينما قصفت الأخيرة بالمدفعية الثقيلة والمسيرات مواقع الجيش وعدداً من الأحياء السكنية.
وأشار مواطنون إلى أن الهدوء النسبي والحذر عاد للمدينة بعد ساعات طوال من العمليات والمواجهات المتواصلة التي غلب عليها "الكر والفر"، وأكدوا أن اشتباكات ضارية اندلعت بين القوتين في المحور الشمالي الغربي استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وهو ما أسفر عن وقوع انفجارات واسعة تصاعد على أثرها أعمدة الدخان في نواحي متفرقة من سماء المدينة.
وتابع هؤلاء المواطنون، "تواصل هذه المعارك بصورة يومية خلق واقعاً مأسوياً لا يمكن وصفه، فالناس هنا جوعى وعطشى لانعدام الغذاء تماماً وانقطاع مصادر المياه، واضطر البعض للنزوح باتجاه المناطق القريبة من الفاشر، وآخرون قصدوا منطقة طويلة التي تبعد نحو 50 كيلومتراً من مدينة الفاشر، لكن المشكلة في عملية الانتهاكات التي تحدث من قبل أفراد ’الدعم السريع’ المنتشرين في الطرقات وأطراف المدينة، فضلاً عن وعورة الطرق".
وفيات بسبب الجوع
في الأثناء أفادت مفوضية العون الإنساني في ولاية شمال دارفور بوفاة 229 شخصاً، بينهم 171 طفلاً و58 من كبار السن، نتيجة الجوع في مدينة الفاشر منذ نهاية أغسطس (آب) الماضي بعدما أحكام قوات "الدعم السريع" حصارها على المدينة، مما تسبب في انعدام كامل للسلع الغذائية.
وأشارت المفوضية إلى أن إجمال عدد القتلى في المدينة جراء الحصار والقتال بلغ 675 شخصاً، فيما وصل عدد المصابين إلى 1464، من بينهم مئات الأطفال والنساء.
ويواجه أكثر من 74 ألف شخص، بينهم 38 ألف طفل أوضاعاً مأسوية داخل الفاشر المحاصرة، إذ أصبح "الأمباز"، الذي يعد علفاً للحيوانات، الوجبة الرئيسة للسكان.
وتعمل حالياً ستة مطابخ خيرية فقط (تكايا) لتقديم الطعام للسكان المحاصرين، في وقت توقفت 15 أخرى عن العمل جزئياً بسبب نقص التمويل والتهديدات الأمنية.
وطالبت المفوضية في ظل هذا الوضع المأسوي بسرعة فك الحصار عن الفاشر وإرسال مواد غذائية عاجلة عبر الإسقاط الجوي، فضلاً عن فتح ممرات آمنة لإيصال المساعدات وإجلاء المصابين، وتوفير الإمدادات الطبية اللازمة للمراكز الصحية المتبقية في الخدمة.
تعزيزات عسكرية
إلى ذلك دفع الجيش بتعزيزات عسكرية ضخمة إلى جبهات القتال الغربية ممثلة في الفاشر وولايات كردفان الثلاث شمال وجنوب وغرب في إطار عملياتها المستمرة لاستعادة المناطق الواقعة في قبضة "الدعم السريع".
وبث الجيش على منصة "فيسبوك" مقطع فيديو يظهر الاحتفال بتدشين هذه التعزيزات التي تشمل آليات مدرعة ووحدات قتالية متخصصة، والتي من المتوقع أن تؤدي إلى توسيع نطاق العمليات العسكرية في ظل تعثر المساعي السياسية.
ووفقاً لمصادر ميدانية فإن هذه التعزيزات تعد الأحدث ضمن سلسلة من التحركات العسكرية التي ينفذها الجيش منذ أسابيع، في محاولة لتثبيت مواقعه واستعادة المناطق الحيوية التي خرجت عن سيطرته خلال الأشهر الماضية.
معاملة الأسرى
من جانبها أشارت القوات المشتركة التابعة للحركات المسلحة إلى التزامها الصارم بالمواثيق الدولية والقواعد الأخلاقية في معاملة أسرى "الدعم السريع" في الحرب الدائرة حالياً في البلاد، مؤكدة أن هذا الالتزام يعكس نهجها الثابت القائم على احترام القيم الإنسانية حتى في أوقات الصراع.
وقالت القوات المشتركة في بيان لها "تجري معاملة الأسرى وفق أعلى المعايير الإنسانية والأخلاقية، وبما يتوافق مع قواعد الاشتباك والاتفاقات الدولية ذات الصلة، فالكرامة الإنسانية للأسرى خط أحمر لا يقبل المساومة".
وأضاف البيان، "تولي قيادة القوات المشتركة اهتماماً خاصاً بتأمين المتطلبات الأساسية للأسرى من مأوى وطعام ورعاية صحية مستمرة، فضلاً عن الالتزام ببروتوكولات أمنية وإنسانية دقيقة تضمن سلامتهم البدنية والنفسية، وتحظر تماماً أي صورة من صور الإساءة أو الانتقام".
ولفت البيان إلى إنشاء آلية رقابية دائمة لمتابعة أوضاع الأسرى في مراكز الاحتجاز، لضمان تنفيذ السياسة الإنسانية المتبعة بصورة فعلية وممنهجة، بما يتوافق مع التزاماتها تجاه القوانين الدولية.
قصف كادوقلي
في محور كردفان تعرضت مدينة كادوقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان لقصف جوي بطائرات مسيرة يرجح أن تكون تابعة لـ"الدعم السريع" استهدف مخزن ذخيرة تابع لسلاح المدفعية، إضافة إلى مباني أكاديمية العلوم الصحية، مما تسبب في وقوع أضرار مادية جسيمة في المباني والممتلكات.
وأشار شهود إلى أن القصف تسبب في حال من الذعر والخوف الواسعين بين السكان، ودفع كثيرين منهم للنزوح إلى شمال المدينة.
وتشهد كادوقلي منذ أسابيع تصعيداً ميدانياً متكرراً من قبل "الدعم السريع" في مسعى يهدف لزعزعة استقرار المدينة وفتح جبهة جديدة ضد الجيش.
ويأتي هذا القصف بعد أيام من استهداف مماثل طاول أحياءً سكنية ومقار خدمية في هذه المدينة، في وقت يواصل فيه الجيش عملياته لتمشيط محيط كادوقلي وتعقب العناصر التي تهدد استقرارها وأمنها.
حراك نشط
في الموازاة تشهد الساحة السياسية السودانية حراكاً نشطاً في ضوء تزايد الدعوات الإقليمية والدولية لتفعيل الآلية الرباعية التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات لإحياء مسار السلام في البلاد، والتي طرحت (الرباعية) أخيراً خريطة طريق تبدأ بهدنة إنسانية وتمهد لعملية سياسية شاملة، وهو ما قوبل بترحيب من قوات "الدعم السريع" وتحفظ من قيادة الجيش.
في السياق ذاته أكد قائد الجيش عبدالفتاح البرهان إن القوات المسلحة السودانية لن تدخل في أي مفاوضات مع أي جهة كانت، سواء كانت "الرباعية" أو غيرها، إلا في حال ضمان وحدة السودان وكرامته وإنهاء الحرب بصورة تزيل أسباب التمرد.
ورفض البرهان خلال مراسم تأدية عزاء لأحد ضباط الجيش في مدينة عطبرة بشمال البلاد أي محاولات وإملاءات خارجية لفرض حلول سياسية أو تشكيل حكومة لا تحظى بقبول الشعب. وأوضح أن الجيش لا يستهدف قبائل أو مناطق بعينها، بل يواصل عملياته ضد العدو أينما وجد، في إشارة إلى "الدعم السريع".
ونوه قائد الجيش بأن من يسعى بصدق إلى السلام ويضع مصلحة الشعب السوداني فوق كل اعتبار، فإن الجيش يرحب به، ولفت إلى أن تضحيات الشهداء ستظل دافعاً لمواصلة القتال حتى تحقيق سلام حقيقي يعيد الاستقرار إلى البلاد.
ضوء أخضر
من جانبه أشار القيادي في التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة السودانية "صمود" بابكر فيصل إلى أن طرفي الصراع في البلاد وافقا على تنفيذ خريطة الآلية الرباعية التي طرحتها في الـ12 من سبتمبر (أيلول) الماضي لإنهاء الأزمة السودانية.
وتوقع فيصل في منشور له على "فيسبوك" أن تتوصل الآلية الرباعية في اجتماعها المنتظر في واشنطن خلال الشهر الجاري إلى مواقيت زمنية وآليات محددة لتنفيذ الهدنة الإنسانية، بعدما أعطى الطرفان المتحاربان الضوء الأخضر للمضي قدماً في تنفيذ خريطة الطريق. ونوه بأن أي صفقة ثنائية تقوم على تقاسم السلطة بين الأطراف المتحاربة لن توقف الحرب بصورة نهائي، ولن تحقق سلاماً مستداماً، موضحاً أن اختبار تحقيق خريطة الطريق يتمثل في العملية السياسية التي يجب أن تعالج جذور الأزمة.
وجدد القيادي في التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة تأكيده على عدم مشاركة الحركة الإسلامية في العملية السياسية في ظل استمرار قبضتها على الأجهزة الأمنية والعسكرية وبيروقراطية الدولة.
في المقابل دعت قوى سياسية وجماعات مسلحة متحالفة مع الجيش في وقت سابق إلى ضرورة إجراء حوار شامل من دون استثناء أي طرف داخل السودان في ختام مشاوراتها التي أجرتها مع لجنة شكلها قائد الجيش ترتب لإطلاق عملية سياسية.
وفي الـ15 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري عقد قائد الجيش عبدالفتاح البرهان محادثات في القاهرة مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ناقشت حل الأزمة في البلاد والمساعي المبذولة من الآلية الرباعية في هذا الخصوص.
وقال المتحدث باسم الرئاسة المصرية محمد الشناوي في بيان وقتها إن "الرئيسين يتطلعان لأن يسفر اجتماع الآلية الرباعية الذي سيعقد في واشنطن خلال أكتوبر الجاري عن نتائج ملموسة بغية التوصل إلى وقف الحرب وتسوية الأزمة".
وأشار الشناوي إلى أن اللقاء تناول أهمية الآلية الرباعية كمظلة للسعي إلى تسوية الأزمة السودانية ووقف الحرب وتحقيق الاستقرار المطلوب.