• الساعة الآن 10:48 PM
  • 15℃ صنعاء, اليمن
  • -18℃ صنعاء, اليمن

ترجمة: فخ الشرعية: كيف تُسهم المؤسسات الدولية في ترسيخ سيطرة الحوثيين على اليمن

news-details

مقال للباحثة فاطمة أبو الأسرار 

في الثاني من سبتمبر 2025، وبعد أربعة أيام من الغارات الجوية الإسرائيلية التي قتلت أحمد الرحوي و12 من أعضاء حكومة الحوثيين في اليمن، التقت رئيسة بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) بمسؤول في وزارة الخارجية التابعة للحوثيين، إسماعيل المتوكل، في صنعاء. وبحسب وكالة “سبأ” التابعة للحوثيين، فقد قدّمت تعازيها في “الجريمة التي ارتكبها الكيان الصهيوني”، وأبدت “تضامنها” مع اليمن، وأكدت أن خطط الصليب الأحمر لتقديم المساعدات لم تتغير. ورغم أن اللغة التي نسبتها وسيلة الإعلام الحوثية لرئيسة بعثة الصليب الأحمر تبدو غير دقيقة، إلا أن المنظمة لا تستطيع دحضها علنًا، لأن معارضة رواية الحوثيين تعني فقدان الوصول الميداني وتعريض الموظفين للخطر، وربما إغلاق أنشطتها في شمال اليمن، حيث يعيش ثلثا السكان. ونتيجة لذلك، ظلّ البيان قائمًا في إعلام الحوثيين كدليل على اعتراف دولي بـ"شرعية" حكومتهم، يُستخدم لتثبيت سلطتهم داخليًا وخارجيًا.

 البقاء من خلال الشرعية الإنسانية

لسنوات، ساد الاعتقاد بأن بقاء الحوثيين مرهون بانتصاراتهم العسكرية والدعم الإيراني. وهذان عاملان أساسيان، لكن هناك عامل ثالث غالبًا ما يُغفل:  تسليح الانخراط الدولي .

في عام 2018، حين كانت القوات الموالية للحكومة تستعد لاستعادة الحديدة من الحوثيين، تدخّل المجتمع الدولي محذرًا من كارثة إنسانية واحتمال تدمير الميناء. أسفر ذلك عن  اتفاق ستوكهولم  الذي فرض وقفًا لإطلاق النار كرّس سيطرة الحوثيين.

وفي النهاية، دُمر الميناء بفعل الغارات الإسرائيلية بعد أن استخدمه الحوثيون لإطلاق أكثر من 130 هجومًا على الملاحة في البحر الأحمر. لقد منع المجتمع الدولي تدمير الميناء عبر إيقاف تحريره، فقط ليراه يُدمّر لاحقًا بشروط الحوثيين أنفسهم. ويتكرر هذا النمط باستمرار:  الانخراط دون محاسبة يعزز سلوك الحوثيين بدل أن يحدّ منه. 

 الشرعية عبر العمليات الإنسانية

في أكتوبر 2025، نشرت صحيفة "الثورة" التابعة للحوثيين تقريرًا عن جولة لمسؤولي الصليب الأحمر في “عمليات نزع الألغام” الحوثية، في قلب مفارقة مأساوية، إذ توثّق منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” أن الحوثيين أنفسهم هم المصدر الرئيسي لأزمة الألغام في اليمن.

في مناطق سيطرة الحوثيين، تنسّق الأمم المتحدة وصول المساعدات الإنسانية من خلال مسؤولي الحوثيين وبشروطهم. منظمة الصحة العالمية تتفاوض مع وزارة الصحة الحوثية، وبرنامج الأغذية العالمي يوزع المساعدات عبر شبكاتهم. أمام كل وكالة خياران ظاهريان: إما التعامل مع الحوثيين ومنحهم شرعية الأمر الواقع، أو الانسحاب وترك السكان الضعفاء لمصيرهم.

لكن هذا الإطار مضلل ومُصمَّم بعناية من الحوثيين. فالسيناريو متكرر: الحوثيون يعرقلون المساعدات بالسرقة والابتزاز واحتجاز الموظفين، مما يؤدي إلى تعليق العمليات، ثم يفاوضون على استئنافها بشروط تُكرّس سيطرتهم. حتى عندما علّقت الأمم المتحدة عملياتها في صعدة بعد وفاة موظف تابع لبرنامج الأغذية العالمي في الحجز، وردًّا على اعتقالات جماعية، صعّد الحوثيون أكثر. كل توقف يتحول إلى أداة ضغط جديدة.

أما الادعاء بأن سكان مناطق الحوثيين بلا بدائل فهو أيضًا زائف. فالحكومة اليمنية تسيطر على مناطق واسعة يمكن إيصال المساعدات إليها دون تدخل. ومع ذلك، تبقى الموارد الأممية متركزة في صنعاء الخاضعة للحوثيين، رغم نزوح السكان نحو المناطق الحكومية.

تستطيع الأمم المتحدة تمرير المساعدات عبر المناطق الحكومية والمنظمات المحلية، لكنها لا تفعل، ما يكشف  تفضيلًا مؤسسيًا للتعامل مع السلطات القائمة  حتى عندما تسرق المساعدات وتهدد الموظفين وتستخدم المعاناة كسلاح.

وتشمل الأدلة تحويل المساعدات إلى حزب الله في لبنان، وإعادة بيع المواد الغذائية، واختفاء الإمدادات الطبية. هذا ليس سوء إدارة، بل  استغلال منظم . الحوثيون يفضلون معاناة المدنيين على تلقي مساعدات لا يمكنهم السيطرة عليها أو تحقيق مكاسب منها. الجوع يخدم مصالحهم السياسية عندما يكون البديل إيصال المساعدات بعيدًا عن سلطتهم. ومع ذلك، تستمر الوكالات الدولية، معتبرة أن مجرد “الوصول” هدف بحد ذاته، بغض النظر عن من يستفيد فعلاً.

من احتكار الوصول إلى احتجاز الرهائن

منذ مايو 2024، احتجز الحوثيون أكثر من 60 عامل إغاثة، بينهم 13 موظفًا من الأمم المتحدة و50 من العاملين في منظمات يمنية ودولية، بتهم تجسس ملفقة. في يناير 2025، اعتُقل ثمانية آخرون، توفي أحدهم في الحجز، مما دفع الأمم المتحدة لتعليق عملياتها في محافظة صعدة. بدلاً من أن تواجه هذه الانتهاكات عواقب، أظهرت أن الحوثيين  قادرون على التصعيد دون ثمن .

استغل الحوثيون الأزمات كفرص لتعزيز قبضتهم. فبعد الغارات الإسرائيلية التي قتلت أعضاء في حكومتهم أواخر أغسطس، شنّوا حملة قمع جديدة: داهمت قواتهم مباني وكالات أممية واعتقلت 11 موظفًا إضافيًا بتهم تجسس. الاتهامات لا أساس لها، لكن الحوثيين أعلنوا أن المعتقلين سيُحاكمون.

الحملة تجاوزت عمال الإغاثة لتشمل  اعتقالات جماعية  في شمال اليمن، وخطوطًا ساخنة للإبلاغ عن “الجواسيس”، واعتقال أمين مجلسهم السياسي الأعلى نفسه بتهمة التجسس.

الأخطر أن القيادة الحوثية جعلت هذا التهديد علنيًا. ففي 16 أكتوبر 2025، أعلن عبد الملك الحوثي مقتل رئيس أركانه محمد الغماري، واتهم موظفين من “برنامج الأغذية العالمي” و“اليونيسف” بتشكيل خلايا تجسس “ساهمت في استهداف جماعته”. وقال:  “لا شيء يحمي المنتسبين للمنظمات الإنسانية من المحاسبة والملاحقة... دورهم عدواني وإجرامي.”

 يتضح أن الحوثيين قادرون على احتجاز وابتزاز المنظمات الدولية لأن هذه الأخيرة ترضخ في النهاية للحفاظ على إمكانية الوصول الإنساني.

 

 انخراط بلا محاسبة

محاولة السعودية التهدئة مع الحوثيين بين 2023 و2024 تُظهر بوضوح فشل الانخراط بلا محاسبة. فبرغم المفاوضات والتنازلات الاقتصادية، صعّد الحوثيون هجماتهم غير المسبوقة في البحر الأحمر، وهددوا – وفق مصدر خاص – بتصعيد عسكري ضد السعودية إن لم تضغط على الحكومة اليمنية لرفع القيود الاقتصادية التي فرضها البنك المركزي التابع لها.

كل تنازل كان يقويهم أكثر. فبالنسبة للحوثيين، الانخراط يُفسَّر كضعف، ويُستغل لترسيخ السيطرة وانتزاع المزيد.

وفي أكتوبر 2025، أعلن كبير مفاوضي الحوثيين،  محمد عبد السلام  – الخاضع للعقوبات الأمريكية – أن الإفراج عن موظفي الأمم المتحدة المحتجزين مرتبط بالتقدم في خارطة السلام السعودية-الأممية، رابطًا قضيتين لا علاقة بينهما عمدًا، ليحوّل  عمال الإغاثة إلى أوراق مساومة .

وكالعادة، اكتفت الأمم المتحدة “بالحديث عن الحديث”، وقبلت هذا الإطار كأساس للنقاش، مما يُظهر أن احتجاز العاملين الإنسانيين يُكافأ بمقعد على طاولة المفاوضات.

اليمنيون يعرفون ما سيحدث لاحقًا. لقد شاهدوا كيف أضفى الانخراط الدولي الشرعية على  حزب الله في لبنان  و حماس في غزة ، مما عزز سلطة الميليشيات بينما تُركت الشعوب تحت حكمها. ويتكرر السيناريو نفسه مع الحوثيين منذ سنوات. وعندما تنتهي المحادثات وينصرف العالم، سيبقى اليمنيون وحدهم تحت سلطة ميليشيا ساعد العالم على ترسيخها.

---

فاطمة أبو الأسرار باحثة منتسبة في معهد الشرق الأوسط وكبيرة محللي السياسات في المركز الأمريكي للدراسات اليمنية.

شارك الخبر: